اولادنا أكبادنا تمشي على الأرض
أولادنا أكبادنا ..كيف نتعامل معهم ؟!
خلق الله سبحانه وتعالى البشر متفقين في حسن الخلقة، حيث صوَّرهم فأحسن صورهم ((وصوركم فأحسن صوركم)) غافر (64) ((الذي خلقك فسواك فعدلك)) فاطر (7)، ومتفقين ـ أيضاً ـ في الصفات الفطرية والحاجات البيولوجية كالحاجة إلى الطعام والشراب والإخراج، والحاجة إلى النوم، والحاجة إلى الاقتران بالجنس الآخر (الزواج)، وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره.
لكنه ـ سبحانه وتعالى ـ اختص أناساً على أناس بصفات لا تتوفر للجميع، فاصطفى الأنبياء على غيرهم من البشر، واصطفى الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل، كما اصطفى بعض النساء على بعض كآسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، واصطفى أيضاً الشهداء والصالحين عطاءً من لدنه وفضلاً.
ونحن في تربيتنا لأبنائنا وبناتنا دائماً ما نتمنى أن يكون أطفالنا أمثلة ونماذج مثالية، يصيبون ولا يخطئون، يطيعون ولا يعصون، ليسوا مزعجين ولا مشاغبين بل هادئين، ليسوا متأخرين دراسياً بل متفوقين، يسلكون السلوك الحسن في كل لحظة من لحظات حياتهم. اللعب بحساب، الأكل والشرب بحساب، حتى سلوكهم أثناء نومهم لابد وأن يكون بحساب!
ونظن أن هذا الطفل ـ الآلة ـ والذي صُنِع بأيدينا وعلى أعيننا هو "الطفل المثالي"، وأصبح هذا المصطلح يتردد على ألسنتنا جميعاً آباءً وأمهات، معلمين ومربين "الطفل المثالي"، "الابن المثالي"، "الطالب المثالي".
وأصبح معيار المثالية لدينا هو أن يفعل الطفل كل ما نريده نحن، ويسلك السلوك الذي نعتقد نحن أنه صواب، وتخضع حركاته وسكناته ولفتاته لإرادتنا نحن لا إرادته هو وصفاته ومواهبه التي ركبها الله ـ سبحانه ـ فيه وميزه بها عن غيره، ناسين بل متغافلين عما أودعه الله في نفوس البشر من فروق فردية تميز كل واحد عن غيره خاصة الأطفال بما حباهم الله من قدرة على الحركة والانطلاق، وطاقة هائلة، ومواهب تتفجر من حين لآخر غضة فطرية لم تؤثر فيها شواغل الحياة وهمومها. فنادراً ما نجد طفلاً يتشابه مع غيره في كل شئ، حتى التوائم المتماثلة نراهم نسخاً كربونية في الشكل والهيئة والصوت والمشية وفي كثير من المشاعر، لكنهم يختلفون ـ أحياناً ـ في المواهب التي حباهم الله بها أو في المستوى الدراسي مثلاً، فهذا يحب الرسم والألوان ويتقن التعامل مع هذا الفن، وآخر مواهبه علمية بحتة أو رياضية، وذاك متفوق في دراسته وآخر مستواه دون المتوسط. فإذا كان الأمر هكذا بين التوائم، فكيف يكون الحال بين غيرهم من الأطفال؟!
إن من الظلم البين أن نطلب من الطفل أن يكون مثالياً على طريقتنا (الكربونية)، متفوقاً في دراسته مثل أخيه، مؤدباً هادئاً مثل ابن الجيران، بارعاً في الرسم والتلوين على شاكلة ابن عمه أو خاله!، شجاعاً مقداماً وبطلاً فذاً في المصارعة مثلما كان جده في أوائل القرن الماضي!!.
أي ظلم نمارسه على أطفالنا حينما نجبرهم على أن يعيشوا حياة غيرهم لا حياتهم هم؟، وأي غَبْن نلفهم به ونضغط عليهم من خلاله حينما نقارنهم بأناس أعطاهم الله من القدرات والمواهب ما لم يعطهم؟! حتى إذا لم يقدروا على تلبية مطالبنا وإشباع رغباتنا ـ غير المنضبطة بضوابط السنن الإلهية في الكون والأحياء ـ اعتبرناهم فاشلين، متفلتين، غير بارين بآبائهم، ثم تحدث الكارثة وتظهر أجيال جديدة معقدة، فاشلة بالفعل، لا تثق في قدراتها، ولا تعي أين مواطن تميزها وتفوقها، ذلك.. لأننا نريدها مثالية ملائكية!.
أيها الآباء، أيتها الأمهات، أيها المربون والمعلمون: دعوا أبناءكم يعيشون حياتهم لا حياة غيرهم. أشغلوا أنفسكم باكتشاف ما لديهم من قدرات حقيقية ومواهب أودعها الله فيهم. لا تشغلوا بالكم بما لدى أبناء الآخرين، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى قسم الأرزاق جميعاً ((نحن قسمنا بينهم معيشتهم)) الزخرف (32)، كما أنه ـ سبحانه ـ أودع في كل إنسان ملكات وقدرات ومواهب تحتاج إلى من يكتشفها، ويزيل عنها ران الإهمال وغبار الجهل وعدم المبالاة، كما تحتاج إلى من يصقلها ويخرجها إلى ميدان التطبيق. ساعتها ـ عندما تعلمون ذلك وتمارسونه ـ ستدهشكم طاقات أبنائكم، وستجدون مساحات واسعة من الإبداع والتميز في عقولهم، ومراتع خصبة من المواهب والقدرات في نفوسهم ستجعلكم تحققون حلم المثالية الذي عشتم من أجل تحقيقه، لكن ليس على الطريقة الكربونية! بل على طريقة الحكمة الإلهية. وسبحان الله الخلاق العظيم.